الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
فأجاب: مدينة النبي صلى الله عليه وسلم من الحجاز باتفاق أهل العلم ولم يقل أحد من المسلمين ولا غيرهم أن المدينة النبوية من الشام وإنما يقول هذا جاهل بحد الشام والحجاز جاهل بما قاله الفقهاء وأهل اللغة وغيرهم. ولكن يقال المدينة شامية ومكة يمانية: أي المدينة أقرب إلى الشام ومكة أقرب إلى اليمن وليست مكة من اليمن ولا المدينة من الشام. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته: أن تخرج اليهود والنصارى من جزيرة العرب - وهي الحجاز - فأخرجهم عمربن الخطاب رضي الله عنه من المدينة وخيبر وينبع واليمامة ومخاليف هذه البلاد، ولم يخرجهم من الشام، بل لما فتح الشام أقر اليهود والنصارى بالأردن وفلسطين وغيرهما كما أقرهم بدمشق وغيرها. وتربة الشام تخالف تربة الحجاز كما يوجد الفرق بينهما عند المنحنى الذي يسمى عقبة الصوان. فإن الإنسان يجد تلك التربة مخالفة لهذه التربة كما تختلف تربة الشام ومصر. فما كان دون وادي المنحنى فهو من الشام: مثل معان. وأما العلى وتبوك ونحوهما: فهو من أرض الحجاز. والله أعلم.
فأجاب: الحمد لله رب العالمين. أما دعواهم أن المسلمين ظلموهم في إغلاقها فهذا كذب مخالف لإجماع المسلمين، فإن علماء المسلمين من أهل المذاهب الأربعة: مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم من الأئمة. كسفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وغيرهم ومن قبلهم من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين: متفقون على أن الإمام لو هدم كل كنيسة بأرض العنوة، كأرض مصر والسواد بالعراق وبر الشام ونحو ذلك مجتهدًا في ذلك ومتبعا في ذلك لمن يرى ذلك لم يكن ذلك ظلما منه، بل تجب طاعته في ذلك ومساعدته في ذلك ممن يرى ذلك. وإن امتنعوا عن حكم المسلمين لهم كانوا ناقضين العهد وحلت بذلك دماؤهم وأموالهم. وأما قولهم: إن هذه الكنائس قائمة من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأن الخلفاء الراشدين أقروهم عليها. فهذا أيضا من الكذب، فإن من العلم المتواتر أن القاهرة بنيت بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بأكثر من ثلاثمائة سنة بنيت بعد بغداد وبعد البصرة، والكوفة وواسط. وقد اتفق المسلمون على أن ما بناه المسلمون من المدائن لم يكنلأهل الذمة أن يحدثوا فيها كنيسة، مثل ما فتحه المسلمون صلحا وأبقوا لهم كنائسهم القديمة، بعد أن شرط عليهم فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا يحدثوا كنيسة في أرض الصلح فكيف في مدائن المسلمين بل إذا كان لهم كنيسة بأرض العنوة كالعراق ومصر ونحو ذلك فبنى المسلمون مدينة عليها فإن لهم أخذ تلك الكنيسة، لئلا تترك في مدائن المسلمين كنيسة بغير عهد، فإن في سنن أبي داود بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تصلح قبلتان بأرض ولا جزية على مسلم). والمدينة التي يسكنها المسلمون والقرية التي يسكنها المسلمون وفيها مساجد المسلمين لا يجوز أن يظهر فيها شيء من شعائر الكفر، لا كنائس، ولا غيرها، إلا أن يكون لهم عهد فيوفى لهم بعهدهم. فلو كان بأرض القاهرة ونحوها كنيسة قبل بنائها لكان للمسلمين أخذها، لأن الأرض عنوة فكيف وهذه الكنائس محدثة أحدثها النصارى فإن القاهرة بقي ولاة أمورها نحو مائتي سنة على غير شريعة الإسلام، وكانوا يظهرون أنهم رافضة وهم في الباطن: إسماعيلية ونصيرية وقرامطة باطنية كما قال فيهم الغزالى - رحمه الله تعالى - في كتابه الذي صنفه في الرد عليهم: ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض. واتفق طوائف المسلمين: علماؤهم وملوكهم وعامتهم منالحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم: على أنهم كانوا خارجين عن شريعة الإسلام وأن قتالهم كان جائزا، بل نصوا على أن نسبهم كان باطلًا وأن جدهم كان عبيد الله بن ميمون القداح لم يكن من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصنف العلماء في ذلك مصنفات. وشهد بذلك مثل الشيخ أبي الحسن القدوري إمام الحنفية والشيخ أبي حامد الإسفرائيني إمام الشافعية ومثل القاضي أبي يعلى إمام الحنبلية ومثل أبي محمد بن أبي زيد إمام المالكية. وصنف القاضي أبو بكر ابن الطيب فيهم كتابا في كشف أسرارهم وسماه [كشف الأسرار وهتك الأستار] في مذهب القرامطة الباطنية. والذين يوجدون في بلاد الإسلام من الإسماعيلية والنصيرية والدرزية وأمثالهم من أتباعهم. وهم الذين أعانوا التتار على قتال المسلمين وكان وزير [هولاكو] النصير الطوسي من أئمتهم. وهؤلاء أعظم الناس عداوة للمسلمين وملوكهم ثم الرافضة بعدهم. فالرافضة يوالون من حارب أهل السنة والجماعة ويوالون التتار ويوالون النصارى. وقد كان بالساحل بين الرافضة وبين الفرنج مهادنة حتى صارت الرافضة تحمل إلى قبرص خيل المسلمين وسلاحهم وغلمان السلطان وغيرهم من الجند والصبيان. وإذا انتصر المسلمون على التتار أقاموا المآتم والحزن وإذا انتصر التتار على المسلمين أقامواالفرح والسرور. وهم الذين أشاروا على التتار بقتل الخليفة وقتل أهل بغداد. ووزير بغداد ابن العلقمي الرافضي هو الذي خامر على المسلمين وكاتب التتار حتى أدخلهم أرض العراق بالمكر والخديعة ونهى الناس عن قتالهم. وقد عرف العارفون بالإسلام: أن الرافضة تميل مع أعداء الدين. ولما كانوا ملوك القاهرة كان وزيرهم مرة يهوديًا ومرة نصرانيًا أرمينيًا وقويت النصارى بسبب ذلك النصراني الأرميني وبنوا كنائس كثيرة بأرض مصر في دولة أولئك الرافضة المنافقين وكانوا ينادون بين القصرين: من لعن وسب فله دينار وإردب. وفي أيامهم أخذت النصارى ساحل الشام من المسلمين حتى فتحه نور الدين وصلاح الدين. وفي أيامهم جاءت الفرنج إلى بلبيس وغلبوا من الفرنج، فإنهم منافقون وأعانهم النصارى والله لا ينصر المنافقين الذين هم يوالون النصارى فبعثوا إلى نور الدين يطلبون النجدة فأمدهم بأسد الدين وابن أخيه صلاح الدين. فلما جاءت الغزاة المجاهدون إلى ديار مصر قامت الرافضة مع النصارى فطلبوا قتال الغزاة المجاهدين المسلمين وجرت فصول يعرفها الناس حتى قتل صلاح الدين مقدمهم شاور. ومن حينئذ ظهرت بهذه البلاد كلمة الإسلام والسنة والجماعة وصار يقرأ فيها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالبخاري ومسلم ونحو ذلك. ويذكر فيها مذاهب الأئمة ويترضى فيها عن الخلفاء الراشدين، وإلا كانوا قبل ذلك من شر الخلق. فيهم قوم يعبدون الكواكب ويرصدونها وفيهم قوم زنادقة دهرية لا يؤمنون بالآخرة ولا جنة ولا نار ولا يعتقدون وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج وخير من كان فيهم الرافضة والرافضة شر الطوائف المنتسبين إلى القبلة. فبهذا السبب وأمثاله كان إحداث الكنائس في القاهرة وغيرها وقد كان في بر مصر كنائس قديمة، لكن تلك الكنائس أقرهم المسلمون عليها حين فتحوا البلاد، لأن الفلاحين كانوا كلهم نصارى ولم يكونوا مسلمين، وإنما كان المسلمون الجند خاصة وأقروهم كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم اليهود على خيبر لما فتحها، لأن اليهود كانوا فلاحين وكان المسلمون مشتغلين بالجهاد. ثم إنه بعد ذلك في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كثر المسلمون واستغنوا عن اليهود أجلاهم أمير المؤمنين عن خيبر كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) حتى لم يبق في خيبر يهودي. وهكذا القرية التي يكون أهلها نصارى وليس عندهم مسلمون ولا مسجد للمسلمين فإذا أقرهم المسلمون على كنائسهم التي فيها جاز ذلك كما فعله المسلمون: وأما إذا سكنها المسلمون وبنوا بها مساجدهم فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصلح قبلتان بأرض) وفي أثر آخر: (لا يجتمع بيت رحمة وبيت عذاب). والمسلمون قد كثروا بالديار المصرية وعمرت في هذه الأوقات حتى صار أهلها بقدر ما كانوا في زمن صلاح الدين مرات متعددة وصلاح الدين وأهل بيته ما كانوا يوالون النصارى ولم يكونوا يستعملون منهم أحدا في شيء من أمور المسلمين أصلا، ولهذا كانوا مؤيدين منصورين على الأعداء مع قلة المال والعدد، وإنما قويت شوكة النصارى والتتار بعد موت العادل أخي صلاح الدين حتى إن بعض الملوك أعطاهم بعض مدائن المسلمين وحدث حوادث بسبب التفريط فيما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى يقول: فكان ولاة الأمور الذين يهدمون كنائسهم ويقيمون أمر الله فيهم كعمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد ونحوهما: مؤيدين منصورين. وكان الذين هم بخلاف ذلك مغلوبين مقهورين. وإنما كثرت الفتن بين المسلمين وتفرقوا على ملوكهم من حين دخل النصارى مع ولاة الأمور بالديار المصرية، في دولة المعز ووزارة الفائز وتفرق البحرية وغير ذلك. والله تعالى يقول في كتابه: وكل من عرف سير الناس وملوكهم رأى كل من كان أنصر لدين الإسلام وأعظم جهادا لأعدائه وأقوم بطاعة الله ورسوله: أعظم نصرة وطاعة وحرمة: من عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإلى الآن. وقد أخذ المسلمون منهم كنائس كثيرة من أرض العنوة بعد أن أقروا عليها في خلافة عمر بن عبد العزيز وغيره من الخلفاء وليس في المسلمين من أنكر ذلك. فعلم أن هدم كنائس العنوة جائز، إذا لم يكن فيه ضرر على المسلمين. فإعراض من أعرض عنهم كان لقلة المسلمين ونحو ذلك من الأسباب كما أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن إجلاء اليهود حتى أجلاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وليس لأحد من أهل الذمة أن يكاتبوا أهل دينهم من أهل الحرب ولا يخبروهم بشيء من أخبار المسلمين ولا يطلب من رسولهم أن يكلف ولي أمر المسلمين ما فيه ضرر على المسلمين ومن فعل ذلك منهم وجبت عقوبته باتفاق المسلمين وفي أحد القولين يكون قد نقض عهده وحل دمه وماله. ومن قال إن المسلمين يحصل لهم ضرر إن لم يجابوا إلى ذلك لم يكن عارفا بحقيقة الحال، فإن المسلمين قد فتحوا ساحل الشام وكان ذلك أعظم المصائب عليهم وقد ألزموهم بلبس الغيار وكان ذلك من أعظم المصائب عليهم، بل التتار في بلادهم خربوا جميع كنائسهم وكان نوروز رحمه الله تعالى قد ألزموهم بلبس الغيار وضرب الجزية والصغار. . . فكان ذلك من أعظم المصائب عليهم ومع هذا لم يدخل على المسلمين بذلك إلا كل خير، فإن المسلمين مستغنون عنهم وهم إلى ما في بلاد المسلمين أحوج من المسلمين إلى ما في بلادهم، بل مصلحة دينهم ودنياهم لا تقوم إلا بما في بلاد المسلمين والمسلمون ولله الحمد والمنة أغنياء عنهم في دينهم ودنياهم. فأما نصارى الأندلس فهم لا يتركون المسلمين في بلادهم لحاجتهم إليهم وإنما يتركونهم خوفًا من التتار. فإن المسلمين عند التتار أعز من النصارى وأكرم ولو قدر أنهم قادرون على من عندهم من المسلمين فالمسلمون أقدر على من عندهم من النصارى. والنصارى الذين في ذمة المسلمين فيهم من البتاركة وغيرهم من علماء النصارى ورهبانهم ممن يحتاج إليهم أولئك النصارى وليس عند النصارى مسلم يحتاج إليه المسلمون ولله الحمد مع أن فكاك الأسارى من أعظم الواجبات وبذل المال الموقوف وغيره في ذلك من أعظم القربات وكل مسلم يعلم أنهم لا يتجرون إلى بلاد المسلمين إلا لأغراضهم، لا لنفع المسلمين ولو منعهم ملوكهم من ذلك لكان حرصهم على المال يمنعهم من الطاعة فإنهم أرغب الناس في المال ولهذا يتقامرون في الكنائس. وهم طوائف مختلفون وكل طائفة تضاد الأخرى. ولا يشير على ولي أمر المسلمين بما فيه إظهار شعائرهم في بلاد الإسلام أو تقوية أمرهم - بوجه من الوجوه - إلا رجل منافق يظهر الإسلام وهو منهم في الباطن أو رجل له غرض فاسد مثل أن يكونوا برطلوه ودخلوا عليه برغبة أو رهبة أو رجل جاهل في غاية الجهل لا يعرف السياسة الشرعية الإلهية التي تنصر سلطان المسلمين على أعدائه وأعداء الدين، وإلا فمن كان عارفا ناصحا له أشار عليه بما يوجب نصره وثباته وتأييده واجتماع قلوب المسلمين عليه ومحبتهم له ودعاء الناس له في مشارق الأرض ومغاربها. وهذا كله إنما يكون بإعزاز دين الله وإظهار كلمة الله وإذلال أعداء الله تعالى. وليعتبر المعتبر بسيرة نور الدين وصلاح الدين ثم العادل، كيف مكنهم الله وأيدهم وفتح لهم البلاد وأذل لهم الأعداء، لما قاموا من ذلك بما قاموا به. وليعتبر بسيرة من والى النصارى كيف أذله الله تعالى وكبته. وليس المسلمون محتاجين إليهم ولله الحمد. فقد كتب خالد بن الوليد - رضي الله عنه - إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: [إن بالشام كاتبا نصرانيا لا يقوم خراج الشام إلا به] فكتب إليه: [لا تستعمله]. فكتب: [إنه لا غنى بنا عنه] فكتب إليه عمر [لا تستعمله] فكتب إليه [إذا لم نوله ضاع المال] فكتب إليه عمر - رضي الله عنه - [مات النصراني والسلام]. وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن مشركا لحقه ليقاتل معه فقال له: (إني لا أستعين بمشرك) وكما أن استخدام الجند المجاهدين إنما يصلح إذا كانوا مسلمين مؤمنين: فكذلك الذين يعاونون الجند في أموالهم وأعمالهم إنما تصلح بهم أحوالهم إذا كانوا مسلمين مؤمنين وفي المسلمين كفاية في جميع مصالحهم ولله الحمد. ودخل أبو موسى الأشعري رضي الله عنه على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه - فعرض عليه حساب العراق فأعجبه ذلك وقال: [ادع كاتبك يقرؤه علي] فقال: [إنه لا يدخل المسجد] قال: [ولم؟] قال: [لأنه نصراني] فضربه عمر - رضي الله عنه -بالدرة فلو أصابته لأوجعته ثم قال: لا تعزوهم بعد أن أذلهم الله ولا تأمنوهم بعد أن خونهم الله ولا تصدقوهم بعد أن أكذبهم الله. والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها قلوبهم واحدة موالية لله ولرسوله ولعباده المؤمنين معادية لأعداء الله ورسوله وأعداء عباده المؤمنين وقلوبهم الصادقة وأدعيتهم الصالحة هي العسكر الذي لا يغلب والجند الذي لا يخذل فإنهم هم الطائفة المنصورة إلى يوم القيامة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الله تعالى: وهذه الآيات العزيزة فيها عبرة لأولى الألباب فإن الله تعالى أنزلها بسبب أنه كان بالمدينة النبوية من أهل الذمة من كان له عز ومنعة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان أقوام من المسلمين عندهم ضعف يقين وإيمان وفيهم منافقون يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر: مثل عبد الله بن أبي رأس المنافقين وأمثاله وكانوا يخافون أن تكون للكفار دولة فكانوا يوالونهم ويباطنونهم. قال الله تعالى: فقد عرف أهل الخبرة أن أهل الذمة من اليهود والنصارى والمنافقين يكاتبون أهل دينهم بأخبار المسلمين وبما يطلعون على ذلك من أسرارهم حتى أخذ جماعة من المسلمين في بلاد التتار وسبي وغير ذلك، بمطالعة أهل الذمة لأهل دينهم. ومن الأبيات المشهورة قول بعضهم: كل العداوات [قد] ترجى مودتها إلا عداوة من عاداك في الدين ولهذا وغيره منعوا أن يكونوا على ولاية المسلمين أو على مصلحة من يقويهم أو يفضل عليهم في الخبرة والأمانة من المسلمين، بل استعمال من هو دونهم في الكفاية أنفع للمسلمين في دينهم ودنياهم والقليل من الحلال يبارك فيه والحرام الكثير يذهب ويمحقه الله تعالى. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فأجاب: ليس له أن يحدث ما ذكره من الكنيسة وإن كان هناك آثار كنيسة قديمة ببر الشام فإن بر الشام فتحه المسلمون عنوة وملكوا تلك الكنائس، وجاز لهم تخريبها باتفاق العلماء وإنما تنازعوا في وجوب تخريبها. وليس لأحد أن يعاونه على إحداث ذلك ويجب عقوبة من أعانه على ذلك. وأما المحدث لذلك من أهل الذمة فإنه في أحد قولي العلماء ينتقض عهده ويباح دمه وماله، لأنه خالف الشروط التي شرطها عليهم المسلمون وشرطوا عليهم أن من نقضها فقد حل لهم منها ما يباح من أهل الحرب. والله أعلم.
وهذه الآية أمرهم فيها بذكر نعمته عليهم وذكر ميثاقه. فذكر سببي الوجوب، لأن الوجوب الثابت بالشرع ثابت بإيجاب الربوبية وهي إنعامه عليهم، ولهذا جاء في الحديث: (أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه). ولهذا كان عادة المصنفين في [أصول الدين] أول ما يذكرون أول نعمة أنعمها الله على عباده وأول ما وجب على عباده ويذكرون [مسألة وجوب شكر المنعم] هل وجب مع الشرع بالعقل أم لا ولهذا كانت طريقة القرآن تذكير العباد بآلاء الله عليهم فإن ذلك يقتضي شكرهم له وهو أداء الواجبات الشرعية. وقوله: وقد أخبر أنه بنقضهم ميثاقهم لعناهم وأقسى قلوبهم، لا بمجرد المعصية للأمر فكان في هذا أن عقوبة هذه الواجبات الموثقة بالعهود من جهة النقض أوكد. وقوله: وهذا نص في أنه يجب بالنذر ما كان واجبًا بالشرع فإذا تركه عوقب لإخلاف الوعد الذي هو النذر فإن النذر وعد مؤكد هكذا نقل عن العرب وهذه الآية تسمى النذر وعدًا. وقوله: وإنما جاءت الرخصة في السلم والحرب خاصة لأن هذين الموطنين مبناهما على تأليف القلوب وتنفيرها فإذا تألفت فهي المسالمة وإذا تنافرت فهي المحاربة والتأليف والتنفير يحصل بالتوهمات كما يحصل بالحقائق، ولهذا يؤثر قول الشعر في التأليف والتنفير بحيث يحرك النفوس شهوة ونفرة تحريكا عظيما وإن لم يكن الكلام منطبقًا على الحق، لكن لأجل تخييل أو تمثيل. فلما كانت المسالمة والمحاربة الشرعية يقوم فيها التوهم لما لا حقيقة له مقام توهم ما له حقيقة ولم يكن في المعارض إلا الإيهام بما لا حقيقة له والناطق لم يعن إلا الحق صار ذلك حقا وصدقا عند المتكلم وموهما للمستمع توهما يؤلفه تأليفا يحبه الله ورسوله أو ينفره تنفيرا يحبه الله ورسوله بمنزلة تأليفه وتنفيره بالأشعار التي فيها تخييل وتمثيل وبمنزلة الحكايات التي فيها الأمثال المضروبة. فإن الأمثال المنظومة والمنثورة إذا كانت حقا مطابقا فهي من الشعر الذي هو حكمة وإن كان فيها تشبيهات شديدة وتخييلات عظيمة أفادت تأليفًا وتنفيرًا.
وقال قدس الله روحه وفي سنن أبي داود عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس على مسلم جزية ولا تصلح قبلتان بأرض). وهذه الشروط قد ذكرها أئمة العلماء من أهل المذاهب المتبوعة وغيرها في كتبهم واعتمدوها، فقد ذكروا أن على الإمام أن يلزم أهل الذمة بالتميز عن المسلمين في لباسهم وشعورهم وكناهم وركوبهم: بأن يلبسوا أثوابا تخالف ثياب المسلمين: كالعسلي والأزرق والأصفر والأدكن ويشدوا الخرق في قلانسهم وعمائمهم والزنانير فوق ثيابهم. وقد أطلق طائفة من العلماء أنهم يؤخذون باللبس وشد الزنانير جميعا ومنهم من قال: هذا يجب إذا شرط عليهم. وقد تقدم اشتراط عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ذلك عليهم جميعًا حيث قال: ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم في قلنسوة ولا غيرها: من عمامة ولا نعلين. إلى أن قال: ويلزمهم بذلك حيث ما كانوا ويشدوا الزنانير على أوساطهم. وهذه الشروط ما زال يجددها عليهم من وفقه الله تعالى من ولاة أمور المسلمين كما جدد عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - في خلافته وبالغ في اتباع سنة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حيث كان من العلم والعدل والقيام بالكتاب والسنة بمنزلة ميزه الله تعالى بها على غيره من الأئمة وجددها هارون الرشيد وجعفر المتوكل وغيرهما وأمروا بهدم الكنائس التي ينبغي هدمها كالكنائس التي بالديار المصرية كلها ففي وجوب هدمها قولان: ولا نزاع في جواز هدم ما كان بأرض العنوة إذا فتحت. ولو أقرت بأيديهم لكونهم أهل الوطن كما أقرهم المسلمون على كنائس بالشام ومصر ثم ظهرت شعائر المسلمين فيما بعد بتلك البقاع بحيث بنيت فيها المساجد: فلا يجتمع شعائر الكفر مع شعائر الإسلام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع قبلتان بأرض) ولهذا شرط عليهم عمر والمسلمون - رضي الله عنهم - أن لا يظهروا شعائر دينهم. وأيضا فلا نزاع بين المسلمين أن أرض المسلمين لا يجوز أن تحبس على الديارات والصوامع ولا يصح الوقف عليها بل لو وقفها ذمي وتحاكم إلينا لم نحكم بصحة الوقف. فكيف بحبس أموال المسلمين على معابد الكفار التي يشرك فيها بالرحمن ويسب الله ورسوله فيها أقبح سب. وكان من سبب إحداث هذه الكنائس وهذه الأحباس عليها شيئان. [أحدهما]: أن بني عبيد القداح - الذين كان ظاهرهم الرفض وباطنهم النفاق - يستوزرون تارة يهوديا وتارة نصرانيا واجتلب ذلك النصراني خلقا كثيرا وبنى كنائس كثيرة. [والثاني]: استيلاء الكتاب من النصارى على أموال المسلمين فيدلسون فيها على المسلمين ما يشاءون. والله أعلم. وصلى الله على محمد.
تعلمون أنا بحمد الله في نعم عظيمة ومنن جسيمة وآلاء متكاثرة وأياد متظاهرة. لم تكن تخطر لأكثر الخلق ببال ولا تدور لهم في خيال. والحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى. إلى أن قال: والحق دائما في انتصار وعلو وازدياد والباطل في انخفاض وسفال ونفاد. وقد أخضع الله رقاب الخصوم وأذلهم غاية الذل وطلب أكابرهم من السلم والانقياد ما يطول وصفه. ونحن - ولله الحمد - قد اشترطنا عليهم في ذلك من الشروط ما فيه عز الإسلام والسنة وانقماع الباطل والبدعة وقد دخلوا في ذلك كله وامتنعنا حتى يظهروا ذلك إلى الفعل. فلم نثق لهم بقولولا عهد ولم نجبهم إلى مطلوبهم. حتى يصير المشروط معمولا والمذكور مفعولا ويظهر من عز الإسلام والسنة للخاصة والعامة ما يكون من الحسنات التي تمحو سيئاتهم. وقد أمد الله من الأسباب التي فيها عز الإسلام والسنة وقمع الكفر والبدعة: بأمور يطول وصفها في كتاب. وكذلك جرى من الأسباب التي هي عز الإسلام وقمع اليهود والنصارى بعد أن كانوا قد استطالوا وحصلت لهم شوكة وأعانهم من أعانهم على أمر فيه ذل كبير من الناس فلطف الله باستعمالنا في بعض ما أمر الله به ورسوله. وجرى في ذلك مما فيه عز المسلمين. وتأليف قلوبهم وقيامهم على اليهود والنصارى وذل المشركين وأهل الكتاب مما هو من أعظم نعم الله على عباده المؤمنين. ووصف هذا يطول. وقد أرسلت إليكم كتابا أطلب ما صنفته في أمر الكنائس وهي كراريس بخطي قطع النصف البلدي. فترسلون ذلك إن شاء الله تعالى وتستعينون على ذلك بالشيخ جمال الدين المزي فإنه يقلب الكتب ويخرج المطلوب. وترسلون أيضا من تعليق القاضي أبي يعلى الذي بخط القاضي أبي الحسين إن أمكن الجميع وهو أحد عشر مجلدا وإلا فمن أوله مجلدا أو مجلدين أو ثلاثة. وذكر كتبا يطلبها منهم.
في قوم من أهل الذمة ألزموا بلباس غير لباسهم المعتاد وزي غير زيهم المألوف وذلك أن السلطان ألزمهم بتغيير عمائمهم وأن تكون خلاف عمائم المسلمين فحصل بذلك ضرر عظيم في الطرقات والفلوات وتجرأ عليهم بسببه السفهاء والرعاع وآذوهم غاية الأذى وطمع بذلك في إهانتهم والتعدي عليهم. فهل يسوغ للإمام ردهم إلى زيهم الأول وإعادتهم إلى ما كانوا عليه مع حصول التمييز بعلامة يعرفون بها؟ وهل ذلك مخالف للشرع أم لا؟ . قال ابن القيم: فأجابهم من منع التوفيق وصد عن الطريق بجواز ذلك وأن للإمام إعادتهم إلى ما كانوا عليه. قال شيخنا: فجاءتني الفتوى. فقلت: لا تجوز إعادتهم ويجب إبقاؤهم على الزي الذي يتميزون به عن المسلمين. فذهبوا ثم غيروا الفتيا ثم جاءوا بها في قالب آخر فقلت: لا تجوز إعادتهم. فذهبوا ثم أتوا بها في قالب آخر فقلت: هي المسألة المعينة وإن خرجت في عدة قوالب. قال ابن القيم: ثم ذهب شيخ الإسلام إلى السلطان وتكلم عنده بكلام عجب منه الحاضرون فأطبق القوم على إبقائهم. ولله الحمد والمنة.
فأجاب - رضي الله عنه - الحمد لله. الرهبان الذين تنازع العلماء في قتلهم وأخذ الجزية منهم: هم المذكورون في الحديث المأثور عن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال في وصيته ليزيد بن أبي سفيان لما بعثه أميرًا على فتح الشام فقال له في وصيته: (وستجدون أقوامًا قد حبسوا أنفسهم في الصوامع فذروهم وما حبسوا أنفسهم له وستجدون أقواما قدفحصوا عن أوساط رءوسهم فاضربوا ما فحصوا عنه بالسيف وذلك بأن الله يقول: وإنما نهى عن قتل هؤلاء، لأنهم قوم منقطعون عن الناس محبوسون في الصوامع يسمى أحدهم حبيسا لا يعاونون أهل دينهم على أمر فيه ضرر على المسلمين أصلاً ولا يخالطونهم في دنياهم، ولكن يكتفي أحدهم بقدر ما يتبلغ به. فتنازع العلماء في قتلهم كتنازعهم في قتل من لا يضر المسلمين لا بيده ولا لسانه، كالأعمى والزمن والشيخ الكبير ونحوه، كالنساء والصبيان. فالجمهور يقولون: لا يقتل إلا من كان من المعاونين لهم على القتال في الجملة وإلا كان كالنساء والصبيان. ومنهم من يقول: بل مجرد الكفر هو المبيح للقتل وإنما استثنى النساء والصبيان، لأنهم أموال. وعلى هذا الأصل ينبني أخذ الجزية. وأما الراهب الذي يعاون أهل دينه بيده ولسانه: مثل أن يكون له رأي يرجعون إليه في القتال أو نوع من التحضيض: فهذا يقتل باتفاق العلماء إذا قدر عليه وتؤخذ منه الجزية وإن كان حبيسًا منفردًا في متعبده. فكيف بمن هم كسائر النصارى في معايشهم ومخالطتهم الناس واكتساب الأموال بالتجارات والزراعات والصناعات، واتخاذ الديارات الجامعات لغيرهم وإنما تميزوا على غيرهم بما يغلظ كفرهم ويجعلهم أئمة في الكفر مثل التعبد بالنجاسات وترك النكاح واللحم واللباس الذي هو شعار الكفر لا سيما وهم الذين يقيمون دين النصارى بما يظهرونه من الحيل الباطلة التي صنف الفضلاء فيها مصنفات ومن العبادات الفاسدة وقبول نذورهم وأوقافهم. والراهب عندهم شرطه ترك النكاح فقط وهم مع هذا يجوزون أن يكون بتركًا وبطرقًا وقسيسًا وغيرهم من أئمة الكفر الذين يصدرون عن أمرهم ونهيهم، ولهم أن يكتسبوا الأموال كما لغيرهم مثل ذلك. فهؤلاء لا يتنازع العلماء في أنهم من أحق النصارى بالقتل عند المحاربة وبأخذ الجزية عند المسالمة وأنهم من جنس أئمة الكفر الذين قال فيهم الصديق رضي الله عنه ما قال وتلا قوله تعالى: ويبين ذلك أنه سبحانه وتعالى قد قال: فهل يقول عالم: إن أئمة الكفر الذين يصدون عوامهم عن سبيل الله ويأكلون أموال الناس بالباطل ويرضون بأن يتخذوا أربابًا من دون الله: لا يقاتلون ولا تؤخذ منهم الجزية، مع كونها تؤخذ من العامة الذين هم أقل منهم ضررا في الدين وأقل أموالا. لا يقوله من يدري ما يقول. وإنما وقعت الشبهة لما في لفظ الراهب من الإجمال والاشتراك وقد بينا أن الأثر الوارد مقيد مخصوص وهو يبين المرفوع في ذلك. وقد اتفق العلماء على أن علة المنع هو ما بيناه. فهؤلاء الموصوفون تؤخذ منهم الجزية بلا ريب ولا نزاع بين أئمة العلم فإنه ينتزع منهم ولا يحل أن يترك شيء من أرض المسلمين التي فتحوها عنوة وضرب الجزية عليها، ولهذا لم يتنازع فيه أهل العلم: من أهل المذاهب المتبوعة: من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة: أن أرض مصر كانت خراجية وقد ثبت ذلك في الحديث الصحيح الذي في صحيح مسلم، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (منعت العراق درهمها وقفيزها ومنعت الشام مدها ودينارها ومنعت مصر إردبها ودرهمها وعدتم من حيث بدأتم) لكن المسلمون لما كثروا نقلوا أرض السواد في أوائل الدولة العباسية من المخارجة إلى المقاسمة ولذلك نقلوا مصر إلى أن استغلوها هم كما هو الواقع اليوم ولذلك رفع عنها الخراج. ومثل هذه الأرض لا يجوز باتفاق المسلمين أن تجعل حبسا على مثل هؤلاء يستغلونها بغير عوض. فعلم أن انتزاع هذه الأرضين منهم واجب باتفاق علماء المسلمين، وإنما استولوا عليها بكثرة المنافقين من المنتسبين إلى الإسلام في الدولة الرافضية واستمر الأمر على ذلك وبسبب كثرة الكتاب والدواوين منهم ومن المنافقين: يتصرفون في أموال المسلمين بمثل هذا كما هو معروف من عمل الدواوين الكافرين والمنافقين. ولهذا يوجد لمعابد هؤلاء الكفار من الأحباس ما لا يوجد لمساجد المسلمين ومساكنهم: للعلم والعبادة، مع أن الأرض كانت خراجية باتفاق علماء المسلمين. ومثل هذا لا يفعله من يؤمن بالله ورسوله وإنما يفعله الكفار والمنافقون ومن لبسوا عليه ذلك من ولاة أمور المسلمين. فإذا عرف ولاة أمور المسلمين الحال عملوا في ذلك ما أمر الله به ورسوله. والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله على محمد.
فأجاب: كل كتاب تدعيه اليهود بإسقاط الجزية من على أو غيره فهو كذب يستحقون العقوبة عليه مع أخذ الجزية منهم وتؤخذ منه الجزية الماضية. والله أعلم.
فأجاب: الحمد لله. أما أهل الذمة فإنهم وإن أقروا على ما يستحقون به في دينهم فليس لهم أن يبيعوا المسلم خمرا ولا يهدونها إليه ولا يعاونوه عليها بوجه من الوجوه فليس لهم أن يعصروها لمسلم ولا يحملوها له ولا يبيعوها من مسلم ولا ذمي. وهذا كله مما هو مشروط عليهم في عقد الذمة ومتى فعلوا ذلك استحقوا العقوبة التي تردعهم وأمثالهم عن ذلك. وهل ينتقض عهدهم بذلك وتباح دماؤهم وأموالهم؟ على قولين في مذهب الإمام أحمد وغيره. وكذلك ليس لهم أن يستعينوا بجاه أحد ممن يخدمونه أو ممن أظهر الإسلام منهم. أو غيرهما على إظهار شيء من المنكرات، بل كما تجب عقوبتهم تجب عقوبة من يعينهم بجاهه أو غير جاهه على شيء من هذه الأمور. وإذا شرب الذمي الخمر. فهل يحد على ثلاثة أقوال للفقهاء. قيل: يحد. وقيل: لا يحد. وقيل يحد إن سكر. وهذا إذا أظهر ذلك بين المسلمين وأما ما يختفون به في بيوتهم من غير ضرر بالمسلمين بوجه من الوجوه فلا يتعرض لهم. وعلى هذا فإذا كانوا لا ينتهون عن إظهار الخمر أو معاونة المسلمين عليها أو بيعها وهديها للمسلمين إلا بإراقتهاعليهم فإنها تراق عليهم، مع ما يعاقبون به، إما بما يعاقب به ناقض العهد وإما بغير ذلك.
فأجاب: الحمد لله. يستحقون على ذلك العقوبة التي تردعهم وأمثالهم عن ذلك وينتقض بذلك عهدهم في أحد قولي العلماء في مذهب أحمد وغيره. وإذا انتقض عهدهم حلت دماؤهم وأموالهم وحل منهم ما يحل من المحاربين الكفار وللسلطان أن يأخذ منهم هذه الأموال التي قبضوها من أموال المسلمين بغير حق ولا يردها إلى من اشترى منهم الخمر فإنهم إذا علموا أنهم ممنوعين من شرب الخمر وشرائها وبيعها فاشتروها كانوا بمنزلة من يبيع الخمر من المسلمين ومن باع خمرا لم يملك ثمنه. فإذا كان المشتري قد أخذ الخمر فشربها لميجمع له بين العوض والمعوض، بل يؤخذ هذا المال فيصرف في مصالح المسلمين كما قيل في مهر البغي وحلوان الكاهن وأمثال ذلك مما هو عوض عن عين أو منفعة محرمة إذا كان العاصي قد استوفى العوض. وهذا بخلاف ما لو باع ذمي لذمي خمرا سرا فإنه لا يمنع من ذلك. وإذا تقابضا جاز أن يعامله المسلم بذلك الثمن الذي قبضه من ثمن الخمر كما قال عمر رضي الله عنه: ولوهم بيعها وخذوا منهم أثمانها، بل أبلغ من ذلك أنه يجوز للإمام أن يخرب المكان الذي يباع فيه الخمر كالحانوت والدار كما فعل ذلك عمر بن الخطاب حيث أخرب حانوت رويشد الثقفي وقال: إنما أنت فويسق لست برويشد وكما أحرق علي بن أبي طالب قرية كان يباع فيها الخمر. وقد نص على ذلك أحمد وغيره من العلماء.
فأجاب: - رحمه الله - إذا كان أراد بشتمه طائفة معينة من المسلمين فإنه يعاقب على ذلك عقوبة تزجره وأمثاله عن مثل ذلك وأما إن ظهر منه قصد العموم فإنه ينتقض عهده بذلك ويجب قتله.
آخر المجلد الثامن والعشرين
|